حُكْمُ التَّشْرِيحِ
[HUKUM BEDAH MAYAT FORENSIK (OTOPSI)]
إعداد الطالب : فخر الرازي كرديفان
كتبه عام 1423 ه بالمدينة المنورة
===
===***===
قد
ثبتت عصمة دم المسلم ونفسه بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ؛ فلا يحل لأحد كائنا من
كان أن يسفك دم مسلم أو يجني على بشرته أو عضو من أعضائه بغير حق إلا إذا ارتكب من
الجرائم ما يبيح ذلك منه أو يوجبه شرعا.
)وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ومن قتل مؤمناً خطأ
فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا ... ( ) ومن يقتل مؤمنا متعمدا
فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً ( ) ولا تقتلوا النفس التي
حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل
إنه كان منصوراً (
« فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم
هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم ، ألا هل بلغت ؟ ». « لا يحل دم امرئ مسلم
يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب
الزاني ، والمفارق لدينه التارك للجماعة ». « كسر عظم الميت ككسره حياً » . « نهى
عن الجلوس على القبور» .
===***===
أقسام التشريح ، وبيان ما تدعو إليه الضرورة منها
(
التشريح ) في الاصطلاح الطبي يطلق على : « العلم الذي يبحث في تركيب الأجسام
العضوية وتقطيعها عمليا وتشقيقها للفحص الطبي ».
وينقسم
التشريح من حيث الغرض منه إلى أربعة أقسام :
1-
التشريح لمعرفة سبب الوفاة عند الاشتباه في جريمة ، ويسمى « الطب الشرعي » :
2-
التشريح لمعرفة الأمراض وأنواعها ، ويسمى « التشريح المرضي ، أو العلاجي » .
3-
التشريح لمعرفة تركيب الجسم وأعضائه وغير ذلك من أجل تعلُّم الطب عموماً ، ويسمى :
« التشريح التعليمي » .
وذلك
للنهوض بهم علميا وعمليا ، وإعدادهم لخدمة الأمة في مختلف الجوانب الصحية . ولا
يمكن أن تتمّ دراسته الطبية إلا بهذا القسم من التشريح ، فيحتاج إليه للأغراض التالية
:
1- لا يستطيع معرفة الأعضاء ووظائفها إلا بمعرفة
التشريح .
2-
لا يستطيع معرفة الأمراض وتأثيراتها على الجسم إلا بمعرفة التشريح .
3-
لا يستطيع أن تجرى العمليات الجراحية إلا بمعرفة التشريح .
===****===
بعض أقوال فقهاء الإسلام في استثناء حالات دعت الضرورة فيها إلى إباحة دم المسلم ، واقتضت شق جسمه
إن
الأصل العام للإسلام هو احترام الإنسان وعصمة نفسه ودمه حياً وميتاً ، ومنعُ العبث
بجثته والتمثيل بها ، إلا أن هناك حالات استثنائية من هذا الأصل العام ذكرها الفقهاء
وبنوا حكمهم فيها نفيا وإثباتا على رعاية المصالح ، ومنها ما يلي :
الحالة
الأولى : ضرب أو رمي من تترس به الكفار من أسارى المسلمين .
1- جواز ذلك ، بشرط
أن يقصد رمي غير المسلمين ( جماهير العلماء ) ([1]).
2- عدم جواز رميهم وقتالهم بما يعم ( الشافعي والحسن بن زياد ) ([2]).
الحالة
الثانية : شق بطن امرأة ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حيّ .
وقد
اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال :
1- يجوز فتح
بطنها ، لإخراج الولد . وقال به بعض الحنفية ، وبعض المالكية ، والشافعية ، والظاهرية
([3]).
2- لا يجوز
ذلك. وقال به مالك وأحمد([4]).
3- يجب شق
بطنها إن لم يكن إخراج الولد منها حيا إلا بذلك . وأشهب من المالكية ، وسحنون
واختاره اللخمي وابن حزم الظاهري ([5]).
الحالة
الثالثة : أكل المضطر لحم آدمي ميت إذا لم يجد شيئا غيره :
ذهب
جمهور العلماء إلى جواز أكل الآدمي الكافر ، وغير معصوم الدم عند الضرورة . وذهب
بعض المالكية إلى عدم جواز ذلك .
واختلفوا
في المسلم معصوم الدم على قولين :
1-
يجوز ذلك . وبه قال الشافعي ، وبعض الحنفية ، وابن عرفة من المالكية ، والحنابلة في وجه([6])
.
2-
لا يجوز ذلك . وهو المذهب عند المالكية ، والصحيح عند الحنابلة ، والظاهرية ([7]).
الحالة الرابعة : إلقاء أحد ركاب السفينة التي خشي عليها
العطب فيلقى أحدهم في البحر بقرعة لينجو الباقون.
اختلف
العلماء فيها على قولين : 1- لا تشرع القرعة في مثل هذه الحالة ([8]).
2- يجوز إلقاء واحد منهم لإنقاذ الباقين ([9]).
الحالة
الخامسة : تبييت المشركين أو رميهم بالمنجنيق ونحوه مما يعم الإهلاك به وفيهم
النساء والصبيان.
الكفار
المحاربون دمهم هدر ، غير أن النبي ﷺ نهى عن قتل من لا شأن له في الحرب منهم ؛
كالنساء والصبيان . وقد سبق الكلام على تبييت المحاربين من الكفار وقتالهم بما يعم
إهلاكه وفيهم نساؤهم وصبيانهم في الحالة الأولى تبعا لقتالهم بما يعم وفيهم مسلمون
أسارى أو تجار . وقد حكى ابن رشد فيها اتفاق عوام الفقهاء على جوازها ؛ لما جاء أن
النبي ﷺ نصب المنجنيق لأهل الطائف .
===***===
أقوال علماء العصر في التشريح مع ذكر الخلاف والأدلة والمناقشة والترجيح
القسم
الأول : التشريح لمعرفة أسباب الوفاة وغيرها ( لغرض التحقق من دعوى جنائية ) .
وحكمه أنه جائز باتفاق بين العلماء
المعاصرين ؛ وعليه قرار مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية([10])
.
وقد
اشترط الشيخ بكر أبو زيد لجوازه سبعة شروط تحقيقاً للمصالح المترتبة عليه ، وهي :
1- أن يكون في الجناية متهم . 2- أن
يكون علم التشريح لكشف الجريمة بلغ إلى درجة تفيد نتيجة الدليل . 3- قيام الضرورة
للتشريح بأن تكون أدلة الجناية ضعيفة لا تقوى على الحكم بتقدير القاضي . 4- أن
يكون حق الوارث قائماً لم يسقطه . 5- أن يكون التشريح بواسطة طبيب ماهر . 6- إذن
القاضي الشرعي . 7- التأكد من موت من يراد تشريحه لكشف الجريمة الموتَ المعتبرَ
شرعاً .
القسم الثاني :
التشريح لمعرفة الأمراض وأنواعها، ويسمى « التشريح المرضى ، أو العلاجي » .
1-
أنه جائز عند أغلب العلماء المعاصرين([11])
: ( هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية . والمجمع الفقهي الإسلامي
لرابطة العالم الإسلامي . ودار الإفتاء المصرية . ولجنة الإفتاء بالمملكة الأردنية
الهاشمية . ولجنة الفتاوى الشرعية بالكويت ).
2-
بكر أبو زيد : توقف في المسألة ولم يوافق على جواز تشريح جثة المسلم في هذا النوع
، ولا في النوع الثالث ([12]):
القسم الثالث :
التشريح لمعرفة تركيب الجسم وأعضائه من أجل تعلم الطب عموماً .
اتفق
الباحثون المعاصرون في جواز التشريح لهذا الغرض إن كانت الجثة جثة كافر .
وأما
تشريح جثة المسلم فقد اختلفوا في حكم تشريحها إلى ثلاثة أقوال :
1-
الجواز ([13]).
وهو قول أكثر المعاصرين ( الفتوى من اللجان العلمية المذكورة في القسم الثاني )
إلا أن مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة يرى الاكتفاء بتشريح جثث أموات غير
معصومين متى أمكن الحصول عليها .
2-
لا يجوز تشريح جثة المسلم([14])
.( الألباني ، ومحمد بخيت المطيعي ، والشيخ صالح الفوزان ، ومحمد بن محمد المختار
الشنقيطي وغيرهم ) .
3-
الجواز في جثث الكفار ما دام يمكن شراؤها ، والتوقف في جثث المسلمين . وإليه ذهب
فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد([15]).
الراجح
: ما ذهب إليه أصحاب القول الأول ؛
لقوة ما استدلوا به . ولأن أدلة الأقوال الأخرى مردود عليها . وذلك بشروط ، منها :
قرارات وتوصيات
.
الدورة التاسعة 1396 هـ / 1976 م .
2- توصيات مجمع الفقه الإسلامي ، رابطة العالم الإسلامي ،
الدروة الثامنة 1405 هـ / 1985 م
3- مشروع قرار المجمع الفقهي حول تشريح الموتى .
1- أن هذه المسألة مبنية على مصلحة واقعة في
رتبة الضرورات ، حيث أن رمي الكفار وقتلهم بما يستتبع قتل أسارى المسلمين أو
إصابتهم فيه نصر المسلمين وحفظ دينهم وديارهم ونفوسهم وأموالهم وأعراضهم ، وحفظ
الدين من الضروريات التي اتفقت عليه الشرائع على حفظها .
2- أن في ذلك تقديما
للمصلحة العامة للإسلام وللأمة على المصلحة الخاصة ، وهي حفظ دماء المسلمين
الذين تترس بهم الكفار . وهذا يتفق مع قاعدة تقديم أقوى المصلحتين عند
تعارضهما ، وارتكاب أدنى المفسدتين وأخفهما تفاديا لأشدها . 3- أننا أمرنا بالقتال ، ولو تركنا ذلك لأدى
إلى قفل باب القتال معهم ، فإن حصونهم ومدائنهم قل ما تخلو من مسلم عادة .
4- ولأنه
يجوز لنا أن نفعل ذلك بهم وإن كان فيهم نساؤهم وصبيانهم ، وكما لا يحل قتل المسلم
لا يحل قتل نسائهم وصبيانهم ، ثم لا يمتنع ذلك في حالة رميهم أو قتالهم بما يعم ،
بدليل أن النبي ﷺ
نصب المنجنيق على أهل الطائف ، وأمر
أسامة بن زيد أن يحرق ؛ وحرق حصن عوف بن مالك.
([2]) واستدل القائلون بعدم الجواز بما يلي :
لأن
الإقدام على قتل المسلم حرام ، وترك قتل الكافر جائز ، ألا ترى للإمام ألا يقتل
الأسارى لمنفعة المسلمين ، فكان مراعة جانب المسلم أولى من هذا الوجه .
الجواب
عنه : نقول : القتال معهم فرض ، وإذا تركنا
ذلك لما فعلوا أدى إلى سد باب القتال معهم ، ولأنه يتضرر المسلمون بذلك ، ويجترئون
بذلك على المسلمين ، وربما يصيبون منهم إذا تمكنوا من الدنو من المسلمين والضرر
مدفوع إلا على المسلم الرامي أن يقصد به الحربي .
1- قوله
تعالى : }
ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا{
، فإن في شق بطن المرأة الميتة تسببا في إحياء نفس محترمة ؛ فالإحياء أولى من
تعظيم الميت .
2- أن عصمة الدم ورعاية حرمة الحي آكد من رعاية حرمة الميت.
3- أن في شق بطن الميت لإخراج الجنين الحي استبقاءَ حي بإتلاف جزء من الميت ؛
فأشبه ما إذا اضطر إلى أكل جزء من
الميت .
4- أن من
تركه في بطن أم الجنين الميتة عمدا حتى يموت فهو قاتل نفس . 5- القياس على قطع
الصلاة لإحياء نفس.
1- قوله ﷺ
: « كسر عظم الميت ككسره حيا » . 2- نهى
النبي ﷺ
عن المثلى .
3- أن شق بطن الميتة لإخراج ولدها الحي فيه
انتهاك لحرمتها ومخالفة للأدلة التي دلت على وجوب تكريمها وحرمة إيذائها.
1- مثل
أدلة القول بالجواز ، إلا أنه يجب الشق إذا لم يكن إخراج الولد منها حيا إلا بذلك .
الجواب عنه : أما كيف يخرج ، فهذا من شأن أهل هذه الصناعة من الأطباء
والقوابل.
2- أن الاعتداء على الميت بقطع رقبته أو عضو من أعضائه مثلا
لا يوجب قصاصا ولا دية ، وإنما يوجب تعمده تعزيرا ، بخلاف قتل الحي مسلما أو ذميا ،
فإنه يوجب في الجملة قصاصا أو دية .
3- أن
قوله ﷺ : « كسر عظم الميت ككسره حيا » ، يحمل على من فعل ذلك عبثا ، وأما لأمر هو
واجب فلا . ويدل على ذلك أن الحي لو أصابه أمر في جوفه يتحقق أن حياته باستخراجه
لبقر عليه ولم يكن آثما في فعل ذلك بنفسه أو بولده أو بعبده.
([6]) واستدلوا بما يلي : 1- القياس
على سائر المحرمات التي أبيحت للمضطر . 2- ولأن
حرمة الحي آكد من حرمة الميت بدليل الاختلاف بين الحي والميت في كثير من الأحكام
.
1- قوله ﷺ
: « كسر عظم الميت ككسر عظم الحي » . الجواب عنه : أنه لا حجة في الحديث ههنا ؛
لأن الأكل من اللحم لا من العظم .
2- ولحرمته
، وأنه لا يجوز انتهاك حرمة آدمي لآخر . الجواب عنه : أن حرمة الحي أولى.
([8]) أدلة
القول الأول : 1- أن عصمة
دم الركاب متساوية ، وكذا وجوب محافظة كل منهم على حياته ، فيحرم على كل منهم أن
يلقي بنفسه في اليم لإنقاذ الباقين ، ويحرم عليهم جميعاً أن يلقوا واحداً منهم
بقرعة أو بدونها . 2- أن مصلحة إنقاذ الباقين جزئية
لا كلية ، ونجاتهم بإلقائه ظنية لا قطعية .
1- أن
يونس u في مثل هذا
استعمل القرعة مع أصحاب السفينة كما قال تعالى : ] فساهم فكان
من المدحضين [ وذلك لأنه
علم أنه هو المقصود ، ولكن لو ألقى نفسه في الماء ربما نسب إلى ما لا يليق
بالأنبياء ، فاستعمل القرعة .
قد
يجاب عنه : بأن الاحتجاج بهذه الآية في
إثبات القرعة يتوقف على أن شرع من قبلنا شرع لنا ، وهو كذلك ما لم يرد في شرعنا ما
يخالفه ، وهذه المسألة من هذا القبيل ؛ لأنه كان في شرعهم جواز إلقاء البعض لسلامة
البعض ، وليس ذلك في شرعنا ؛ لأنهم مستوون في عصمة الأنفس فلا يجوز إلقاؤهم بقرعة
ولا بغيرها . ثم إن معنى قرعة يونس u لما وقفت
السفينة بهم ليس لأجل زيادة الركاب ، وإنما هو كما قالوا : " ما يمنعها من أن
تجري إلا علة بها وما علتها إلا ذو ذنب فيها فتعالوا نقترع " ...
2- أن المصلحة هنا وإن كانت جزئية فهي متضمنة للمحافظة على أقوى
المصلحتين ، وهو إنقاذ الجماعة ، وهو يتفق مع ارتكاب أخف المفسدتين ، وهو إلقاء
أحدهم في اليم تفادياً لأشدهما ، وهو هلاك الجميع إذا لم يلق أحدهم بالقرعة.
1-
أنه مما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب ، وبيان ذلك : أن الله تعالى أوجب العدل
بقوله : ) إن الله يأمر بالعدل ... ( ، ولا يتم العدل إلا بإدانة المجرمين
وبراءة الأبرياء ، فبهذا النوع من التشريح يمكن معرفة ذلك عن طريق معرفة سبب
الوفاة .
2-
لا شك أن في التشريح مفاسد ، ولكن توجد بجانبها مصالح ، وهي تفوق وترجح على مفاسده
. والقواعد الشرعية تقتضي تحمل المفاسد المرجوحة لأجل المصالح الراجحة ، وارتكاب
أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما . وبيان ذلك : أن مصالح حرمة الميت قد تعارضت مع مصالح
أولياء الميت والأمة والمتهم عند الاشتباه. فقد تثبت الجناية وفيه صيانة لحق أولياء
الميت ، وإعانة لولي الأمر على ضبط الأمن وردع المجرمين . وقد تثبت براءة المتهم
لثبوت موته موتاً عادياً وفيه مصلحة المتهم .
3- القياس : يجوز تشريح جثة الميت لمصلحة راجحة ، كما يجوز
شق بطن الحامل لاستخراج جنينها الذي رجونا حياته ، ويجوز تقطيع الجنين لإنقاذ أمه
إذا غلب على الظن هلاكها بسببه . ويجوز شق بطنه
لاستخراج المال المغصوب الذي ابتلعه إذا دعت إليه الضرورة .
([11]) الأدلة على جواز هذا النوع من التشريح :
1-
القياس على ما رجحه كثير من الفقهاء السابقين في مسألة رمي الترس الذي تترس الكفار
بأسرى المسلمين ونحوهم في الحرب ؛ إيثارا للمصلحة العامة ، وكذا أيضا شق بطن
الحامل لاستخراج جنينها الذي رجحت حياته ، وأكل المضطر لحم آدمي ميت إبقاء على
حياته ؛ إيثارا لجانب الحي على جانب الميت فاشتملت هذه المسائل على التصرف في جثة
الميت بالتشريح لمصلحة الحي ، وهذه المصلحة موجودة في التشريح لغرض معرفة حقيقة
الأمراض الوبائية ، بل التشريح هنا أولى لتعلقه بحياة الأمة كلها .
2-
أن هذا النوع من التشريح مما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب . ووجهه : أن في هذا
النوع من التشريح المحافظة على نفوس الأحياء ، وهو واجب ، ولا يتم ذلك إلا بهذا
النوع من التشريح .
3- ولو تركنا التشريح لتضرر به أحياء الأمة ، أما الأموات
الذين تشرح جثثهم فلا يتصور تضررهم ، ولو كان فهو أخف من ضرر الأحياء ، والقاعدة «
الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ».
([12]) قال : فحيث أن جثة الموتى من الوثنيين وغيرهم
من الكفار ميسورة الشراء لهذين الغرضين بأرخص الأسعار ، وأموال المسلمين نهابا
يبذل قسط منها في غير مصارفه الشرعية ؛ فهي غير منتظمة المصارف على رسم الشرع . ولذا لم أجرأ على بحثهما .
الرد : أن القائلين بالجواز اشترطوا لها شروطا
يأتي ذكرها ، منها : أنه لا يلجأ لتشريح جثة معصوم الدم إلا عند تعذر الحصول على
جثث غير المعصومين إلا عند الضرورة . وأما كون أموال المسلمين لا تصرف على مصارف
الشرع ؛ فهذا لا يمنع الفقهاء من إعطاء الحكم المناسب للمسائل النازلة . والله
أعلم .
1-
دليلهم من القياس : من وجوه :
1- يجوز تشريح جثة الميت لغرض التعليم : كما يجوز شق بطن
الحامل الميت ، لاستخراج جنينها ؛ إبقاء على حياته
وإيثارا لجانب الحي على جانب الميت .
2-
يجوز ذلك : كما يجوز تقطيع الجنين لإنقاذ أمه إذا غلب الظن هلاكها بسببه .
3-
يجوز ذلك : كما يجوز شق بطنه لاستخراج المال المغصوب الذي ابتلعه .
ففي
الوجه الاول والثاني اشتملا على مصلحة ضرورية ، وفي الثالث اشتمل على مصلحة حاجية
. وكلتا المصلحتين موجودتان في حال تعلم الجراحة الطبية ؛ إذ يقصد منها تارة إنقاذ
حياة المريض ، وهي الضرورية . ويقصد تارة أخرى إنقاذ المريض من آلام الأمراض
والأسقام المضنية وهي الحاجية.
2- إن مصلحة الأمة في مسألتنا أرجح لكونها
كلية عامة ، ولكونها قطعية كما دل ذلك الواقع والتجربة ، وهي عائدة إلى حفظ النفوس
، وحفظها من الضروريات .
3-
أن المصالح التي توجد في هذا النوع من التشريح تربو على مفاسده ،
فجاز فعله .
4-
أن المصلحة المترتبة على هذا النوع من التشريح عامة راجعة إلى الجماعة
، ومصلحة الامتناع من التشريح خاصة متعلقة بالميت وحده ، وإذا تعارضت مصلحتان قدمت
أقواهما .
5-
أن هذا القسم من التشريح مما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب ، ووجهه : أن
الطب فرض كفاية على الأمة ، فإذا لم يقم به أحد أثمت الأمة ، فلا يتم رفع هذا
الإثم إلا بتعلم الطب الذي من أساسياته التشريح .
واستدل
مجلس هيئة كبار العلماء لما ذهبوا إليه بأن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل
المصالح وتكثيرها ، وبدرء المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدها ،
وأنه إذا تعارض المصالح أخذ بأرجحها ، وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا
يغني عن تشريح الإنسان ، وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في
مجالات الطب المختلفة ، فيجوز تشريح جثة الآدمي في الجملة ؛ إلا أن الضرورة إلى
ذلك تنتفي بتيسير الحصول على جثث أموات غير معصومة فيكتفى بتشريح مثل هذه الجثث
وعدم التعرض لجثث أموات معصومين والحال ما ذكر .
1- قوله تعالى : )
ولقد كرمنا بني
آدم وحملناهم في البر والبحر ...(
. وجه الدلالة : أن الآية الكريمة دلت
على تكريم الله تعالى لبنـي آدم ، وهذا التكريم عام شامل لحال حياتهم ومماتهم .
وتشريح جثث الموتى فيه إهانة لها .
الرد
: أننا لم نلغ هذا الاحترام ، ولكن قد وُجدت مفاسد من ترك التشريح أكبر بكثير من
هذه المفسدة . والقاعدة : أنه تدرأ أعلى المفسدتين بارتكاب أخفهما .
2-
أحاديث النهي عن المثلة ، ومنها
1- حديث بريدة t قال : كان رسول
الله ﷺ إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ، ومن معه من
المسلمين خيراً ، ثم قال : « اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ،
اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ، ولا تمثلوا » . رواه مسلم .
2-
حديث عائشة : « إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسر عظمه حياً » .
الرد : هذا في الانتقام أو التشفي . أما لحاجة معتبرة شرعا
فلا يعتبر مثلة . وقد سبق ذكر أقوال الفقهاء في بعض المسائل التي استباحوا فيها
التعرض لجثة المسلم لوجود مثل هذه الحاجة
.
3- من القياس من
وجوه :
1-
أن الأحاديث دلت على أنه لا يجوز الجلوس على القبر ، وأن صاحبه يتأذى بذلك ، مع أن
الجلوس عليه ليس فيه مساس بجسد صاحبه ، فلأن لا يجوز تقطيع أجزائه ، وبقر بطنه
الذي هو أشد انتهاكاً لحرمته من باب أولى وأحرى .
الجواب
: أنه لا شك من وجود المفاسد في التشريح ، ولكن للمصالح التي تربو على هذه المفاسد
، ولوجود مفسدة أكبر من ترك التشريح أجزناه . والقياس هنا مع الفارق ؛ لعدم وجود
الحاجة المعتبرة شرعا من الجلوس على القبر المنهي عن الجلوس عليه . وفي مسألتنا قد
وجدت حاجات معتبرة شرعا .
2- أن من العلماء من نص على حرمة شق بطن المرأة الحامل الميتة
لإنقاذ جنينها الذي رجيت حياته، مع أن في ذلك مصلحة ضرورية، فلأن لا يجوز التشريح
المشتمل على الشق وزيادة أولى وأحرى.
الجواب : أنه قياس
على مسألة مختلف فيها ؛ فلا يصح ؛ لأن للمخالف أن يعكس القياس ، وهو أولى لأن قول
الجمهور من العلماء على الجواز .
4- قاعدة « لا ضرر ولا ضرار » ، وقاعدة « الضرر لا يزال بالضرر » . القاعدة الأولى : دلت
على حرمة الإضرار بالغير ، والتشريح فيه إضرار بالميت ، فلا يجوز فعله . وأما
القاعدة الثانية فقد دلت على أن مفسدة الضرر ينبغي ألا تزال بمثلها ، والتشريح فيه
إزالة ضرر بمثله .
0 Komentar